فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قول تعالى: {يا أيها النبي لِم تُحرِّمُ مآ أحلّ الله لك}. الآية.
تقدم في أول السورة قبلها بيان علاقة الامة بالخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف في تحريم ما أحل الله له بين كونه العسل أو هو مارية جاريته صلى الله عليه وسلم، وسيأتي زيادة إيضاحه عند الكلام وعلى حكمه.
وقوله تعالى: {مآ أحلّ الله لك تبْتغي مرْضات أزْواجِك} ظاهر يه معنى العتاب، كما في قوله تعالى: {عبس وتولى أن جاءهُ الأعمى وما يُدْرِيك لعلّهُ يزكى} [عبس: 1- 3].
وكلاهما له علاقة بالجانب الشخصي سواء ابتغاء مرضاة الأواج، أو استرضاء صناديد قريش، وهذا مما يدل على أن التشريع الإسلامي لا مدخل للأغراض الشخصية فيه.
وبهذا نأخذ بقياس العكس دليلا واضحا على بطلان قول القائلين: إن إعماره صلى الله عليه وسلم لعائشة من التنعيم كان تطيبا لخاطرها، ولا يصح لأحد غيرها.
ومحل الاستدلال هو أن من ليس له حق في تحريم ما أحل الله له ابتغاء مرضاة أزواجه لا يحل له إحلال، وتجويز ما لا يجوز ابتغاء مرضاتهن، وهذا ظاهر بين لله والحمد.
أما تحلة اليمين وكفارة الحنث وغير ذلك، فقد تقدم بيانه للشيح رحمة الله تعالى علينا وعليه، عند قوله تعالى: {لاّ يُؤاخِذُكُمُ الله باللغو في أيْمانِكُمْ} [البقرة: 255].
أما حقيقة التحريم هنا، ونوع الكفارة، وهل كفر صلى الله عليه وسلم عن ذلك ام أن الله غفر له فلم يحتج لتكفير، فقد أوضحه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الإملاء عند هذه الآية.
وفي الأضواء عند قوله تعالى في أول سورة الأحزاب {مّا جعل الله لِرجُلٍ مِّن قلْبيْنِ فِي جوْفِهِ وما جعل أزْواجكُمُ اللائي تُظاهِرُون مِنْهُنّ أُمّهاتِكُمْ} [الأحزاب: 4]، وذلك أن للعلماء نحو عشرين قولا، ورجح القول بأن التحريم ظهار لما يدل عليه ظاهر القرآن، وأن القول الذي يليه أنه يمينن وناقش المسألة بأدلتها هناك.
قوله تعالى: {إِن تتُوبآ إِلى الله فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما}.
أطلقت التوبة هنا وقيدت في الأية بعدها بأنها توبة نصوح، في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنُواْ توبوا إِلى الله توْبة نّصُوحا} [التحريم: 8].
وحقيقة التوبة النصوح وشروطها وآثارها تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، عند قوله تعالى: {وتوبوا إِلى الله جمِيعا أيُّها المؤمنون} [النور: 31].
وقوله تعالى: {فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما}.
قال الشيخ في إملائه: صغت: بمعنى مالت ورضيت وأحبت ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم اه.
وقال: وقلوبكما جمع مع أنه لاثنتين هما حفصة وعائشة، فقيل لأن المعنى معلوم والجمع أخف المثنى إذا أضيف. وقيل هو مام استدل به على أن أقل الجمع اثنين كما في الميراث في قوله: {فإِن كان لهُ إِخْوةٌ} [النساء: 11].
وجواب الشرط في قوله تعالى: {إِن تتُوبآ} محذوف تقديره، فقال واجب عليكما، لأن قلوبكما مالت إلى ما لا يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم اه.
وقدره القرطبي بذلك خير لكم ومعناهما متقارب.
قوله تعالى: {وإِن تظاهرا عليْهِ فإِنّ الله هُو موْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِين والْملائِكةُ بعْد ذلِك ظهِيرٌ}.
قال أبو حيان: الوقف على مولاه، وتكون الولاية خاصة بالله، ويكون جبريل مبتدأ وما بعده عطف عليه، وظهير خبر، وعليه يكون جبريل ذكر مرتين بالخصوص أولا وبالعموم ثانيا.
وقيل: الوقف على وجبريل معطوفا على لفظ الجلالة في الولاية، ثم ابتدئ بصالح المؤمنين وعطف عليهم الملائكة، ويدخل فيهم جبريل ضمنا اه.
فعلى الوقف الأول يكون درج صالح المؤمنين بين جبريل وبين الملائكة تنبيها على علو منزلة صالح المؤمنين، وبيان منزلتهم من عموم الملائكة بعد جبريل، وعلى الوقف الثاني فيه عطف جبريل على لفظ الجلالة في الولاية بالواو، وليس فيه ما يوهم التعارض مع الحديث في ثم إذ محل العطف هو الولاية، وهي قدر ممكن من الخلق ومن الله تعالى كما في قوله تعالى: {هُو الذي أيّدك بِنصْرِهِ وبالمؤمنين} [الأنفال: 62] لأن النصر يكون من الله ويكون مكن العباد، من باب الأخذ بالأسباب {إِلاّ تنصُرُوهُ فقدْ نصرهُ الله} [التوبة: 40].
وكما في قوله تعالى: {ينصُرُون الله ورسُولهُ} [الحشر: 8].
وقوله: {منْ أنصاري إِلى الله} [آل عمران: 52] بخلاف سياق الحديث، فقد كان في موضع المشيئة حينما قال الأعرابي: ما شاء الله وشئت. فقال له صلى الله عيله وسلم: «أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده» لأن حقيقة المشيئة لله تعالى وحده كما في قوله: {وما تشاءُون إِلاّ أن يشاء الله ربُّ العالمين} [التكوير: 29].
وكقوله: {بل لله الأمر جمِيعا} [الرعد: 31].
وكقوله: {لله الأمر مِن قبْلُ ومِن بعْدُ} [الروم: 4].
ومن اللطائف في قوله تعالى: {وإِن تظاهرا عليْهِ} إلى آخر ما سمعته من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، أنه قال: إن المتظاهرتين على رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتان فقط تآمرتا عليه فيما بينهما، فجاء بيان الموالين له ضدهما كل من ذكر في اآية. فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة، ما يدل على عظم كيدهن وضعف الرجال أمامهن، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {إِنّ كيْدكُنّ عظِيمٌ} [يوسف: 28]، بينما قال في كيد الشيطان: {إِنّ كيْد الشيطان كان ضعِيفا} [النساء: 76].
وقد عبر الشاعر عن ذلك بقوله:
ما استعظم الإله كيدهنه ** إلا لأنّهن هن هنه

{عسى ربُّهُ إِنْ طلّقكُنّ أنْ يُبْدِلهُ أزْواجا خيْرا مِنْكُنّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثيِّباتٍ وأبْكارا (5)}
فيه بيان أن الخيرية التي يختارها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في النساء هي تلك الصفات من الإيمان والصلاح.
وجاء الحديث: «فعليك بذات الدين تربت يمينك»
وقوله تعالى: {ولأمةٌ مُّؤْمِنةٌ خيْرٌ مِّن مُّشْرِكةٍ ولوْ أعْجبتْكُمْ} [البقرة: 221].
وفي تقديم الثيبات على الأبكار هنا في معرض التخيير ما يشعر بأوليتهن. مع أن الحديث: «هلا بكرا تداعبك وتداعبها»، ونساء الجنة لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، ففيه أولوية الأبكار. وقد أجاب المفسرون بأن هذا للتنويع فقط، وأن الثيبات في الدنيا والأبكار في الجنة كمريم ابنة عمران، والذي يظهر والله تعالى أعلم: أنه لما كان في مقام الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتنبيههن لما يليق بمقامه عندهن ذكر من الصفات العالية دينا وخلقا، وقدم الثيبات ليبين أن الخيرية فيهن بحسب العشرة ومحاسن الأخلاق.
وقوله تعالى: {عسى ربُّهُ إِن طلّقكُنّ} لم يبين هل طلقهن أم لا؟ مع أن عسى من الله للتحقيق، ولكنه لم يقع طلاقهن كما بينه تعالى في سورة الأحزاب، بأنه تعالى خيرهن بين الله ورسوله، وبين الحياة الدنيا وزينتها، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة فلم يطلقهن، ولم يبدله أزواجا خيرا منهن.
وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة وإخلال الزواج إليه وتحريم النساء بعدهن عليه عند قوله تعالى: {يا أيها النبي إِنّآ أحْللنا لك أزْواجك} [الأحزاب: 50].
وقوله: {تُرْجِي من تشاءُ مِنْهُنّ} [الأحزاب: 51].
وقوله: {لاّ يحِلُّ لك النساء مِن بعْدُ ولا أن تبدّل بِهِنّ مِنْ أزْواجٍ ولوْ أعْجبك حُسْنُهُنّ} [الأحزاب: 52] الآية.
وبين الناسخ من المنسوخ في ذلك في دفع إياهم الاضطراب عن آيات الكتاب.
قوله تعالى: {يا أيها الذين كفرُواْ لا تعْتذِرُواْ اليوم}.
لم يبيّن هنا نوع الاعتذار الذي نهوا عنه ولا سبب النهي عنه لماذا؟ ولا زمنة، وقد بين تعالى نوع اعتذارهم في مثل قوله تعالى: {حتى إِذا اداركوا فِيها جمِيعا قالتْ أُخْراهُمْ لأُولاهُمْ ربّنا هؤلاء أضلُّونا فآتِهِمْ عذابا ضِعْفا مِّن النار} [الأعراف: 38].
وكقوله تعالى: {ثُمّ لمْ تكُنْ فِتْنتُهُمْ إِلاّ أن قالواْ والله ربِّنا ما كُنّا مُشْرِكِين انظر كيْف كذبُواْ على أنفُسِهِمْ} [الأنعام: 23- 24].
وكقوله بعدها: {ولوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على النار فقالواْ ياليتنا نُردُّ ولا نُكذِّب بِآياتِ ربِّنا ونكُون مِن المؤمنين} [الأنعام: 27] فهذا غاية في الاعتذار، ولكنهم نهوا عنه وذلك يوم القيامة، كما في قوله: {إِذْ وُقِفُواْ على النار فقالواْ ياليتنا نُردُّ} [الأنعام: 27] أي إلى الدني.
وقد نهوا عن هذا الاعتذار لأنه لا ينفعهم كما في قوله تعالى: {فيوْمئِذٍ لاّ ينفعُ الذين ظلمُواْ معْذِرتُهُمْ ولا هُمْ يُسْتعْتبُون} [الروم: 57].
وقوله: {يوْم لا ينفعُ الظالمين معْذِرتُهُمْ ولهُمُ اللعنة ولهُمْ سواء الدار} [غافر: 52].
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنُواْ توبوا إِلى الله توْبة نّصُوحا}.
تقدمتالإحالة على كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في بيان أنواع التوبة وشروط كونها نصوحا على قوله تعالى: {وتوبوا إِلى الله جمِيعا} [النور: 31].
قوله تعالى: {نُورُهُمْ يسعى بيْن أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِمْ}.
إلى آخر الآية، تقدم بيان هذا النور وحالتهم تلك للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الحديد عند قوله تعالى: {يوْم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بيْن أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِم} [الحديد: 12].
{يا أيُّها النّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّار والْمُنافِقِين واغْلُظْ عليْهِمْ ومأْواهُمْ جهنّمُ وبِئْس الْمصِيرُ (9)}
قوله تعالى: {يا أيها النبي جاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عليْهِمْ}.
فيه الأمر بقتال الكفار، والمنافقين والغلظة عليهم، ومعلوم أن النّبي صلى الله عليه وسلم قاتل الكفار، ولم علم أنه قاتل المنافقين قتاله للكفار، فما نوع قتاله صلى الله عليه وسلم للمنافقين وبينه؟ والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {وجاهِدْهُمْ بِهِ جِهادا كبيرا} [الفرقان: 52] أي بالقرآن لقوله قبله {ولقدْ صرّفْناهُ بيْنهُمْ لِيذّكّرُواْ فأبى أكْثرُ الناس إِلاّ كُفُورا ولوْ شِئْنا لبعثْنا فِي كُلِّ قرْيةٍ نّذِيرا فلا تُطِعِ الكافرين وجاهِدْهُمْ بِهِ جِهادا كبيرا} [الفرقان: 50- 52].
ومعلوم أن المنافقين كافرون، فكان جهاده صلى الله عليه وسلم للكفار بالسيف ومع المنافقين بالقرآن.
كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في عدم قتلهم، لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، ولكن كان جهادهم بالقرآن لا يقل شدة عليهم من السيف، لأنهم أصبحوا في خوف وذعر يحسبون كل صيحة عليهم، وأصبحت قلوبهم خاوية كأنهم خشب مسندة، وهذا أشد عليهم من الملاقاة بالسيف. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {ضرب الله مثلا للذِين كفرُواْ امرأة نُوحٍ وامرأة لُوطٍ كانتا تحْت عبْديْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحيْنِ فخانتاهُما فلمْ يُغْنِينا عنْهُما مِن الله شيْئا}. الآية.
أجمع المفسرون هنا على ان الخيانة ليست زوجية.
وقال ابن عباس: نساء الانبياء معصومات، ولكنها خيانة دينية بعدم إسلامهن وإخبار أقوامهن بمن يؤمن مع أزواجهن اه.
وقد يستأنس لقول ابن عباس هذا بتحريم التزوج من نساء النّبي صلى الله عليه وسلم بعده، والتعليل له بأن ذلك يؤذيه، كما في قوله تعالى: {وما كان لكُمْ أن تؤْذُواْ رسُول الله ولا أن تنكحوا أزْواجهُ مِن بعْدِهِ أبدا إِنّ ذلكم كان عِند الله عظِيما} [الأحزاب: 53].
فإذا كان تساؤلهنّ بدون حجاب يؤذيه، والزواج بهنّ من بعده عند الله عظيم، فكيف إذا كان غير التساؤل وبغير الزواج؟ إن مكانه الأنبياء عند الله أعظم من ذلك.
وقوله تعالى: {فلمْ يُغْنِيا عنْهُما مِن الله شيْئا} فيه بيان أن العلاقة الزوجية لا تنفع شيئا من الكفر، وقد بين تعالى ما هو أهم من ذلك في عموم القرابات كقوله تعالى: {يوْم لا ينفعُ مالٌ مالٌ ولا بنُون} [الشعراء: 88].
قوله: {يوْم يفِرُّ المرء مِنْ أخِيهِ وأُمِّهِ وأبِيهِ} [عبس: 34- 35] الآية.
وجعل الله هاتين المرأتين مثلا للذين كفروا، وهو شامل لجميع الأقارب كما قدمنا.
وقد سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في معرض محاضرة له الاستطراد في ذلك، وذكر قصة هاتين المرأتين، وقصة إبراهيم مع أبيه ونوح مع ولده، فاستكمل جهات القرابات زوجة مع زوجها، وولد مع والده، ووالد مع ولده. وذكر حديث «يا فاطمة إعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا»
ثم قال: ليعلم المسلم أن أحدا لا يملك نفع أحد يوم القيامة، ولو كان أقرب قريب إلا بواسطة الإيمان بالله وبما يكرم الله به من شاء بالشفاعة، كما في قوله تعالى: {والذين آمنُواْ واتبعتهم ذُرِّيّتُهُم بِإِيمانٍ ألْحقْنا بِهِمْ ذُرِّيّتهُمْ} [الطور: 21] الآية.
{وضرب الله مثلا للذِين آمنُوا امْرأت فِرْعوْن إِذْ قالتْ ربِّ ابْنِ لِي عِنْدك بيْتا فِي الْجنّةِ ونجِّنِي مِنْ فِرْعوْن وعملِهِ ونجِّنِي مِن الْقوْمِ الظّالِمِين (11)}
جاء في هذا المثل بيان مقابل للبيان المتقدم اولمفهوم المخالف له، وهو أن المؤمن لا تضره معاشرة الكافر كما أن الكافر لا تنفعه معاشرة المؤمن، وفي هذا المثل قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الإملاء:
لقد اختارت امرأة فرعون في طلبها حسن الجوار قبل الدار اه.
أي في قولها: {ابن لِي عِندك بيْتا فِي الجنة} الآية.
قوله تعالى: {ومرْيم ابنة عِمْران التي أحْصنتْ فرْجها فنفخْنا فِيهِ مِن رُّوحِنا}.
بين تعالى المراد بالروح بأنه جبريل عليه السلام في قوله: {فأرْسلْنآ إِليْهآ رُوحنا فتمثّل لها بشرا سوِيّا} [مريم: 17] وهو جبريل.
كما في قوله: {نزل بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] أي نزل جبريل بالقرآن، وفي هذه الآية رد على النصارى استدلالهم بها على أن عيسى عليه السلام ابن الله ومن روحه تعالى، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وبيان هذا الرد أن قوله تعالى: {فأرْسلْنآ إِليْهآ رُوحنا} [مريم: 17] تعدية أرسل بنفسه، يدل على أن الذي أرسل يمكن إرساله بنفسه، وهو فرق عند أهل اللغة، بينما يرسل نفسه وما يرسل مع غيره كالرسالة، والهداية، فيقال فيه: أرسلت إليه بكذا، كما في قوله: {وإِنِّي مُرْسِلةٌ إِليْهِمْ بِهدِيّةٍ} [النمل: 35] الآية.
فالهدية لا ترسل بنفسها، ومثله بعثت، تقول: بعثت البعير من مكانه، وبعثت مبعوثا، وبعثت برسالة، ثانيا قوله: {فتمثّل له بشرا سوِيّا} [مريم 17] لفظ الروح مؤنث، كما في قوله تعالى: {فلوْلا إِذا بلغتِ الحلقوم وأنتُمْ حِينئِذٍ تنظُرُون} [الواقعة: 83- 84] أنت الفعل في بلغت، وهنا الضمير مذكر عائد لجبريل.
وقوله: {فتمثّل لها بشرا سوِيّا} [مريم: 17]، ولو أنه من روح الله على ما ذهب إليه النصارى، لما كان في حاجة إلى هذا التمثيل.
ثالثا قوله لها: {إِنّمآ أناْ رسُولُ ربِّكِ} [مريم: 19] ورسوله ربها هو جبريل عليه السلام، وليس روحه تعالى.
رابعا: قوله: {لأهب لكِ غُلاما زكِيّا} [مريم: 19]، ولم يقل لأهب لك روحا من الله.
ومن هذا أيضا قوله تعالى للملائكة {إِنِّي خالِقُ بشرا مِّن طِينٍ} [ص: 71] يعني آدم عليه السلام {فإِذا سوّيْتُهُ ونفخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} [ص: 72] أي نفخت فيه الروح التي بها الحياة، {فقعُواْ لهُ ساجِدِين} [ص: 72]. فلو أن الروح من الله لكان آدم أولى من عيسى، لأنه لم يذكر إرسال رسول له، وقد قال تعالى: {إِنّ مثل عيسى عِند الله كمثلِ آدم خلقهُ مِن تُرابٍ ثِمّ قال لهُ كُن فيكُونُ} [آل عمران: 59]، فكذلك عيسى عليه السلام لما بشرتها به الملائكة، {قالتْ ربِّ أنى يكُونُ لِي ولدٌ ولمْ يمْسسْنِي بشرٌ قال كذلِك الله يخْلُقُ ما يشاءُ إِذا قضى أمْرا فإِنّما يقول لهُ كُنْ فيكُونُ} [آل عمران: 47]، فكل من آدم وعيسى، قال له تعالى: {كن فكان} والله تعالى أعلم. اهـ.